عالم وفن الاتصال


يعتمد تسويق الأفكار على القدرة على الاتصال بشكل كبير جدًّا؛ إذ إن تسويق الأفكار يتم عبر نوع من أنواع الاتصال بين المسوق والمتلقي، ويمكن توضيح ذلك بما يلي:

مفهوم الاتصال:

قد يشير الاتصال إلى مناقشة، أو شريط فيديو، أو قرص حاسب آلي، أو موعظة، أو فلم، أو تدريس في فصل دراسي، أو يشير إلى دمعة من عين، أو تقطيب في جبين، أو إشارة من أصم، أو صمت ذي مغزى..، أو غير ذلك، والحقيقة أن كل ذلك اتصال؛ فالاتصال يشمل جميع الطرائق التي يمكن أن يؤثر بها على عقل آخر، فهو لا يشمل الكلام فحسب، بل يتعداه إلى كل سلوك.

عناصر الاتصال:

ولتوضيح مفهوم الاتصال بشكل أعمق نحتاج إلى دراسة أركانه أو عناصره التي يقوم عليها، وقد أختلف فيها، ونذكر أحد النماذج التي قسمتها إلى ستة عناصر أو أركان، ثم نضيف لها بعض الملاحظات الأخرى، هذه العناصر الستة هي:

1- مصدر المعلومات:

هو الذي يختار رسالة معينة من بين مجموعة من الرسائل الممكنة، وفي موضوعنا: هو الذي يحدد الفكرة التي تحتاج إلى تسويق.

2- المرسل:

الجهاز الذي يتم به الإرسال، سواءً أكان الجهاز الصوتي في الإنسان، أم كان الهاتف، أو التلفاز، أو أي جهاز آخر، هذا الجهاز يحول الرسالة إلى رموز وإشارات.

3- قناة الإرسال:

هي الوسيلة التي ترسل بها رموز الاتصال، فهي في الهاتف: السلك الذي ترسل به الإشارات الكهربائية، وفي الكلام الهواء الذي تسير فيه الإشارات الصوتية.

4- المستقبل:

وهو الذي يتلقى الإشارات عبر القناة ويحولها إلى رسالة أخرى تصل للهدف؛ كالجهاز السمعي، أو هاتف، أو غير ذلك.

5- الهدف:

وهو المتلقي للرسالة، والذي استهدفه مصدر المعلومات عندما اختار الرسالة وأرسلها بواسطة المرسل.

6- مصدر الضوضاء (البيئة):

وهو أي تشويش يحدث بين إرسال الرسالة من مصدرها إلى هدفها، كالتشويش في خط الهاتف، أو في الراديو، أو غير ذلك.

فعندما أتحدث إليك؛ فإن عقلي يكون مصدر المعلومات، وعقلك هو الهدف، وجهازي النطقي هو المرسل، وأذنك هي المستقبل، والهواء هو القناة، والبيئة التي تم فيها تشكل الضوضاء.

ويتضح من ذلك: أنا نتكلم عن أكثر من مجرد حديث، بل كل إشارة أو حركة أو حتى صمت قد تشكل نوع من أنواع الاتصال، وحتى تفهم هذه العناصر بشكل أعمق نحتاج إلى أن نشير لعدة نقاط:

1- قد يكون الاتصال جيدًا أو سيئًا نتيجة أي عنصر من العناصر الستة، سواء من اختيار المعلومة (المصدر)، أو من عدم مناسبة جهاز الإرسال (المرسل)، سواءً الوسيلة كلها، أو ترميزها، أو من الوسيلة التي أرسلت عبرها الإشارات (القناة)، أو من عدم كفاءة الاستقبال، وإعادة تحويل الإشارات إلى رسالة (المستقبل)، أو من المتلقي للرسالة الذي استهدفه الاتصال (الهدف)، أو بسبب أي مشتت في البيئة التي تم فيها الاتصال (الضوضاء).

2- كل عنصر من العناصر له عوامل وعناصر ضابطة لعملية الاتصال؛ فعلى سبيل المثال:

- المصدر والهدف: لكل منهما ثقافته وخبراته ومهاراته في الاتصال، ومواقفه السابقة، ونظامه الاجتماعي، وخرائطه الذهنية.

- المرسل والمتلقي: للرسالة التي ترسل بواسطة المرسل، وتستقبل بواسطة المتلقي هيكلها، وعناصرها ومحتواها وطريقة عرضها، وللجهاز خصائصه البصرية، أو السمعية، أو الحسية، ولكل خاصية عواملها المؤثرة فيها.

3- خبرات الإنسان السابقة ومعارفه وخرائطه الذهنية تشكل كيفية تشفير المعلومات، وكيفية فك التشفير، مما يعني أن الرسالة قد تكون عند المرسل بمعنى، وتصل للهدف بمعنى آخر.

4- الهدف يتحول إلى مصدر مرة أخرى عندما يعطي التغذية الرجعية، ويصبح أي اتصال ذا اتجاهين لا اتجاه واحد.

5- المصدر قد لا يكون شخصًا واحدًا، وكذلك المرسل لا يكون جهازًا واحدًا، بل الغالب أن المصدر عدة جهات، ولكل جهة عدة مرسلين، ولكل مرسل عدة قنوات إرسال، كما أن الهدف قد يتحول إلى مصدر، مما يشير إلى تعقد عملية الاتصال في سبيل قيادة العقول أو التلاعب بها، كما يشير الاتصال كنظام مفتوح تتفاعل جميع أجزائه مع بعضها للوصول للأهداف المرجوة منه.

معنى الاتصال:

يمكن أن يفهم الاتصال بأساليب مختلفة، كما يمكن أن يعرف بطرق متنوعة، إلا أن من أهم ما يمكن أن يفهم به الاتصال وهو معناه الحقيقي، ومحصلته النهائية، ونتيجته وهدفه، وهو ماذا شكَّل في عقل و نفسية المقابل؟

وما المضمون اللفظي إلا مجرد وسيلة لتوصيل المحصلة النهائية، وما الوسيلة والتقنية المستخدمة إلا آليات للوصول إلى النتيجة النهائية، فإذا وصل إلى أذهاننا شيء غير المقصود، فكل ما قلنا وكل الوسائل والتقنيات المستخدمة ليست ذات قيمة، بل قد تكون قيمتها سالبة، والمحصلة النهائية والنتيجة المراد نقلها يتحكم فيها عوامل كثيرة ترسم كيف يشكل المتلقي خارطته الذهنية، وتصوره عن القضية المراد تسويقها، وكيف تكون استجابته وتشكيله لخارطته نتيجة هذه المؤثرات، فمن القضايا ذات المعنى في هذا الشأن، ما سيوضحه الحديث عن عقبات وإشكالات الاتصال، وكيف يتعامل نفسيًّا وعقليًّا المتلقون عند اتصالهم.

عقبات وإشكالات الاتصال:

يفشل الاتصال في مرات كثيرة بسبب قضايا مختلفة تشكل إشكالات أو عقبات في سبيل الاتصال الجيد الفعَّال الذي يحقق أهدافه، ويصل لمحصلته النهائية، هذه العقبات والإشكالات فيها ما يخص المتلقي، وفيها ما يخص المرسل، وسنركز هنا على العقبات المشتركة بين الفئتين في عملية الاتصال المباشرة، وسنتحدث فيها عن إشكالات كل فئة على حدا في القسم الخاص بها من هذا المبحث، فمن العقبات الرئيسة:

- اختلاف الخرائط الذهنية السابقة حول القضية نفسها، فالتصورات مختلفة، والمنطلقات مختلفة، والأهداف والغايات مختلفة، فإذا اجتمع مع ذلك: أن الطرفين لا يستمعان لبعضهما، ولا يحاول كل منهما أن يفهم الآخر؛ كان اتصال الطرشان، وكان اتصالًا للخصومة والمنازعة أكثر منه اتصال للوصول لنتائج يحتاجها الطرفان.

- مناسبة وسيلة وطريقة الاتصال لهما: فلكل وسيلة خصائصها ومميزاتها الخاصة بها، وبالتالي فكل وسيلة تكون أنسب في الاتصال لمواضيع معينة، فالوسيلة المناسبة للاتصال الجماهيرية لا تتناسب مع القضايا التي يُحتاج فيها للخصوصية وهكذا.

كما أن لكل وسيلة اتصال مهاراتها الخاصة التي قد لا يملكها المتصلون ببعضهم، فالهاتف له مهاراته، سواءً في التحدث والكلام أو في السماع، والإذاعة لها مهاراتها سواءً في التقديم أو في الاستماع، والإقناع الشخصي له مهاراته سواءً في مهارات الإقناع، أو الحوار، أو الكلام، أو الاستماع.

- نظرة كلا المتصلين لبعضهما من حيث شخصيهما، وطريقة تفكيرهما، ومقاصدهما: فعندما أرى أن المتصل بي إنسان استغلالي، سأعمم هذا التصور على كل اتصالٍ يتصله بي، وعندما أرى أن المتصل بي إنسان مثالي -من وجهة نظري- فربما أعمم ذلك على رأيه وأفكاره، والقدرة على الفصل بين الأفكار والأشخاص ليست كبيرة لدى كثير من الناس، فالحق لا ينفصل عن قائلة والباطل كذلك، وقد جاء شرعنا بقبول الحق ومن ثم معرفة رجاله لا بمعرفة الحق بالرجال، وكما أن نظرة المتصلين لمقاصد وطريقة تفكير الآخر تؤثر بشكل أو بآخر على تفسير كل اتصال، وعلى التعامل مع كل فكرة، وهي كذلك تؤثر على طريقة اتصال كل منهما بالآخر.

وقال الإمام علي: (لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف الرجال).

كيف تعمل نفسيات وعقول المتصلين في تشكيل الخريطة الذهنية والمحصلة النهائية؟

قلنا: إن مفهوم الاتصال ومعناه الحقيقي يكمن المعنى والتصور الذي شكل في خريطة المقابل، فإن كان الاتصال جيدًا: شكَّل المعنى المراد في ذهن المقابل، وإن شكَّل معنى غير مراد في ذهن المقابل؛ فالاتصال سيئ وغير جيد.

فما هي أسباب تشكل معنًى آخر غير المراد من الاتصال؟

وما الأسباب التي تجعلني أسوق فكرة؛ فأنتهي إلى تسويق فكرة أخرى؟

اختلاف المرشحات الذهنية:

فاختلاف المرشحات يجعل النتائج تختلف، وإن كانت المعطيات واحدة، ولكن المعطيات عولجت بمرشحات مختلفة، ومن أمثلة المرشحات المختلفة: اللغة، والقناعات، والقيم، والخبرات السابقة، وطرائق العقل في الفرز والتفكير.. وغير ذلك.

فمن الممكن النظر لقضية واحدة بطريقتين مختلفتين تمامًا؛ نظرًا لاختلاف المرشحات، فما قد تراه جيدًا نظرًا لقناعاتك يمكن أن يراه الآخر سيئًا نظرًا لقناعاته -أيضًا-، فقد أرى قطعة الكيك سيئة لكونها كثيرة السكريات، ولأني عندما أكلتها سابقًا أصابني سوء هضم، ولأني مقتنع أنها سبب في تسوس أسناني، وقد يراها غيري متعة من متع الدنيا، ولذة من لذائذ الحياة، هذا في الأمور الدنيوية البحتة التي ليس لها وجه تعلق بالشرع؛ كمحبة الكيك مثلًا، وككثير من الأفكار.

أما في الأمور التي لها وجه شرعي؛ فالحق واحد لا يتعدد، وإن كان ليس متيقنًا في معرفته، وبقدر تقوى الله يستطيع الإنسان أن يحدد الحق ويعرفه: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[البقرة:282].

وكما تشكل المرشحات الذهنية للمتلقي معنى معين للاتصال؛ فقد تشكل هذه المرشحات الذهنية للمرسل معنى آخر للاتصال، فقد يعبر عن ما لا يريد، أو يعبر عن فكرة جيدة بتعبير سيئ، أو عن فكرة سيئة بتعبير حسن؛ فتقلب الحقائق، ويتغير الواقع.

اختلاف الطبائع والمقاصد:

فغايات الناس تشكل كثيرًا من آرائهم وأفكارهم وقناعاتهم، فالفكرة التي أرى أنها تخالف ما أريد أن أصل إليه: سأرى عيوبها وأتعرف على قبائحها، بينما الأفكار التي توصلني إلى ما أريد: سأرى محاسنها، وأتعرف على حسنها؛ لذا فبقدر قصد الإنسان ما عند الله وحرصه على الخير بقدر توفيق الله له، وما يريده الإنسان ويركز عليه يحدد -بعد مشيئة الله- ما يحصل عليه، والناس يتعرفون بسهولة على الأفكار التي توصلهم إلى ما يشعرون أنهم يريدون، ولو كانت ليست كذلك، ويبتعد الناس عن الأفكار التي تعيقهم عن ما يريدون، ولو كانت ليست كذلك، وحتى يتم لهم الوصول إلى ما يريدون من أفكار، والابتعاد عن ما لا يريدون؛ فقد يحاول الشخص تشويه الفكرة الحسنة؛ لأنه لا يريدها، وتحسين القبيحة؛ لأنه يريدها، فيرى منافع الخمر، وينسى أن فيها إثم وضرر كبير.

ولا شك أن لكل شيء منافع وله مضارًا، والحكم على ما غلب منها، ولكن مقاصدي وطباعي تجعلني أختار ما أرى وما أسمع وما أحس به، ولو كانت دلالات الواقع مختلفة، والموفق من وفقه الله.

 

4630


كلمات دليلية: