الرئيسية /مدخل قانوني

مدخل قانوني


إن الاهتمام بحماية الملكية الفكرية، وذلك حماية لحقوق المبدعين وأصحاب الملكية الفكرية في مختلف دول العالم، يعد حافزًا لتشجيع الإنسان على الإبداع والمساهمة في إزالة القيود على تدفق العلم والتكنولوجيا عبر الحدود لدعم الجهود المبذولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تساهم تلك الحماية في نمو التجارة الدولية، وتوفر مناخًا أفضل لتدفق السلع والخدمات فيما بين الدول التي لديها تلك القدرات والمقدرات، والتي حققت استقلالها فعلًا، ولديها ملفات لحماية مبدعيها وأفكارهم من العدوان عليها وعليهم.

فليس من قبيل المصادفة: أن تنقل وكالات الأنباء على لسان رئيس الولايات المتحدة بعد دقائق من موافقة دول العالم على الاتفاقية وتحولها إلى منظمة، فهذا مشهد تأخر حوالي نصف قرن؛ إذ تم التخطيط له تخطيطًا استمر في تطوره الدؤوب حتى هذا اليوم من عام 1994 م.

مؤتمر (بريتون وودز) وقراراته:

يعود هذا المشهد إلى مؤتمر (بريتون وودز) الذي تم من 1 إلى 22-7-1944 بدعوة من الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية، وهي بداية قصة المنظمات الدولية التي توصلت عبرها -وما زالت- أمريكا لإحكام السيطرة على الكيانات (الدول) الأخرى؛ فقد تمت صياغة اتفاقية: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، (أو التدمير)، ثم تم الصرف بإنشاء الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، إلى جانب الشركات متعددة الجنسيات، فهي الوسائل الجديدة (الاستعمارية - الإمبريالية) للسيطرة على العالم كله.

وقد أقر المؤتمر:

1- البنك الدولي للإعمار والتنمية في عام 1944 (I.B.R.D ).

2- صندوق النقد الدولي عام 1945 (I.U.F ).

3- ثم بدايات الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات عام 1946 (G.A.T.T ).

لقد سعت أمريكا لذلك مستفيدة بالأوضاع السياسية الاقتصادية لصالحها بعد الحرب العظمى لتكييف اقتصاديات البلدان المتخلفة (النامية) لتتحول إلى اقتصاديات سوق تابعة، ثم مع الديون أصبح الصندوق أداة لعصر التوابع المدينة لحسابها (الدائن)، وإعادة تكييف التوابع مع إعادة جدولة الديون، وإعادة الإقراض. صناعة التبعية، رضا هلال.

وليست -أيضًا- مصادفة أن نقرأ في المؤتمر الوزاري (إعلان مراكش)، تدشينًا لسياسة دول الشمال..: «يؤكد الوزراء على العمل لتحقيق انسجام أكبر على المستوى العالمي للسياسات المتبعة في الميادين النقدية والتجارية والمالية، بما في ذلك التعاون بين المنظمة العالمية للتجارة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي».

 الحماية الدولية للملكية الفكرية:

ما هي الملكية الفكرية: المقصود بالملكية الفكرية (محل الحماية): كل الحقوق الناشئة عن أي نشاط أو جهد فكري يؤدي إلى ابتكار في المجالات الصناعية والعلمية والأدبية والفنية.

ولقد برزت أهمية الملكية الفكرية وبشكل خاص مع نهاية مفاوضات (جولد أورجواي) (1686 - 1994) كعامل رئيس وحساس ومؤثر في التجارة الدولية، وزيادة تفاعلها، ونقل التكنولوجيا وتطويرها، والاستثمارات الأجنبية، وأصبحت مسألة تطوير السياسات المعمول بها في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية والمؤسسات المشرفة عليها من الأولويات، خاصة بالنسبة للدور المتخلفة (النامية). ماهية الملكية الفكرية والمنظمة الدولية التي تدير حماية الملكية الفكرية، ياسر محمد حسن.

واللافت للنظر: أن أمريكا نفسها كانت أولى الدول المتقدمة التي تنتهك حقوق الملكية الفكرية في شتى ميادينها وأشكالها، إلا أنه حينما تعلق الأمر بها تحولت بسرعة البرق إلى ارتداء مسوح الاتفاقات الدولية، ووضع ما يضمن حقوقها.

وسائل السيطرة الأمريكية على دول الجنوب:

في بداية الأمر، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية لما يُسمى بالقائمة السوداء بدرجاتها (أ، ب، ج) للضغط على من ينتهك صناعاتها الثقافية، ولكن مع استفحال الأمر لجأت للاتفاقيات الدولية للسيطرة على الدول الأخرى في الدول النامية أو الساعية للتطور؛ كنمور آسيا، وفي سبيل الهيمنة على الصناعة والثقافة لجأت لوسيلتين للسيطرة على دول (الجنوب والشرق):

الوسيلة الأولى: محاولة توظيف المنظمات الدولية لمصالحها الخاصة كما سبق بيانه.

ولقد أقحمت الولايات المتحدة الحقوق الفكرية على اتفاقية الجات التي كانت التجارة ترسم الإطار الرئيس لها، ولكن مع الإضافات الأمريكية أدخلت تلك الحقوق الفكرية، وهي تشكل كتلة ضخمة فيها بما لا يمكن إغفاله، كما أنها كتبت بصيغة قانونية غامضة وصعبة لا تدع مجالًا للشك في أنها تخدم مصالح وأهداف الولايات المتحدة، والشمال بوجه خاص.

الوسيلة الثانية: أن الولايات المتحدة لجأت في الاتفاقية التي انتهت نتيجة للجولة الأخيرة إلى إجراءات عنيفة في تطبيق حقوق الملكية الفكرية، أهمها: إجراءات انتقامية، أو قوة ردع عنيفة، فقد أضيف إلى أسلوب الضغط الدولي الرسمي ما تستطيع به السيطرة على المجتمع الدولي كله من خلال المنظمات الدولية. الجات والتبعية الثقافية، مصطفى عبد الغني.

وهذا الردع الانتقامي يتم ضد أية دولة تحاول الإفادة من الحضارة الغربية وأدواتها دون العودة إلى أصحابها، وتقوم بذلك منظمة الجات في أي مجال آخر كصناعة النسيج، أو الملابس، أو الدواء.. إلخ.

وسوف يجازي -على المستوى الفردي- بالسجن، أو الغرامات المالية. المرجع السابق.

 الإجراءات الجنائية:

المادة 61: تلتزم البلدان الأعضاء بفرض تطبيق الإجراءات والعقوبات الجنائية، على الأقل في حالات التقليد المتعمد للعلامات التجارية المسجلة، أو انتحال حقوق المؤلف على نطاق تجاري.

وتشمل الجزاءات التي يمكن فرضها: الحبس أو الغرامات المالية بما يكفي لتوفير رادع يتناسب مع مستوى العقوبات المطبقة فيما يتعلق بالجرائم ذات الخطورة المماثلة.

وفي الحالات الملائمة، تشمل الجزاءات التي يمكن فرضها -أيضًا- حجز السلع المخالفة، أو أي مواد ومعدات تستخدم بصورة رئيسة في ارتكاب الجرم، ومصادرتها، وإتلافها.

ويجوز للبلدان الأعضاء فرض تطبيق الإجراءات والعقوبات الجنائية في حالات أخرى من حالات التعدي على حقوق الملكية الفكرية، لا سيما حين تتم التعديات عن عمد، وعلى نطاق تجاري.

 تطور الحماية الدولية للملكية الفكرية:

الـWIPO هي منظمة تدخل ضمن الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، دورها تعزيز وإثراء الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للدول الأعضاء بها (تجاوز العدد الآن 175 دولة )، وهي تهتم على وجه الخصوص بحماية حقوق الملكية الفكرية في مجالات:

الاختراعات، والرسوم، والنماذج الصناعية، والعلامات التجارية، والمؤلفات، والأفلام الروائية والسينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، والموسيقى... إلخ.

وهي تعمل على تفسير وإدارة الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الملكية الفكرية، ودعم تلك الحقوق من خلال تعاون الدول والمنظمات الأخرى لضمان التعاون الإداري فيما بين الاتحادات المنشأة بموجب اتفاقيتي باريس وبرن وما تفرع عنهما من معاهدات، وهي تدير الاتفاقيات الدولية الآتية:

1- معاهدة برن بشأن حماية المصنَّفات الأدبية والفنية 1886.

2- معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996.

3- اتفاقية نيس بشأن التصنيف.

كما تشمل الحماية الدولية للملكية الصناعية، وعديد من المعاهدات والاتفاقيات؛ كحماية البراءات، والسلالات النباتية، والتسجيل الصوتي، وفناني الأداء.

كما تهتم الـWTO المنظمة العالمية للتجارة التي أُنشئت بتوقيع اتفاق مراكش 15 إبريل عام 1994، ولها الإشراف على تنفيذ الاتفاقات الناجمة عن جولة أورجواي للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف، والتي بلغت 28 اتفاقية، وعلاقة الـWIPO بالـWTOوثيقة لقيامهما على تغطية السلع والخدمات والجوانب المتصلة بالملكية الفكرية تجاريًّا، وأساس ذلك مبدأ المساواة في معاملة السلع والخدمات الأجنبية كمثيلاتها المنتجة محليًّا مع مراعاة ما سبق بيانه.

وتهدف اليونسكو التي تضم 186 دولة إلى المساهمة في صون السلم والأمن العام عن طريق التربية والعلوم والثقافة بتوثيق عرى التعاون الدولي لضمان الاحترام للقانون، والعدالة، وحقوق الإنسان، والحريات الأساسية دون تمييز بسبب العنصر، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، وتشجع التعاون بين الأرض في النشاط الفكري والثقافي. المرجع السابق، ياسر محمد حسن.

واتفاقية الـTrIPS (حقوق الملكية الفكرية) قد وضعت معايير حماية الملكية الفكرية، وألزمت الاتفاقية الدول الأعضاء باحترام الحد الأدنى من معايير الحماية في مختلف فروع الملكية الفكرية، ومنها:

1) حقوق المؤلف، والحقوق المتعلقة به.

2) المؤشرات الجغرافية.

3) العلامات التجارية.

4) التصميمات الصناعية.

5) براءة الاختراع.

6) التصميمات والتخطيطات والرسوم الطبوغرافية للدوائر المتكاملة.

7) المعلومات السرية.

8) حماية أصناف النباتات.

ولقد تناولت الاتفاقية دون الدخول في تفصيلاتها الآن كل فرع من فروع الملكية الفكرية على حدة، وما ينصب عليه الحماية، وما يتمتع به أصحابه من حقوق، والاستثناءات التي يجوز تقديرها على هذه الحقوق، والحد الأدنى لمدة الحماية. المرجع السابق.

 ملمح عام عن الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية:

1- اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية عام 1883، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1884.

2- اتفاقية برن لعام 1886 لحماية المصنَّفات الأدبية والفنية لضمان حصول المبدعين على حقهم في الملكية لمصنفاتهم الإبداعية في القصص الروائية القصيرة والطويلة، وقصائد الشعر، والمسرحيات، والأغاني، والتقاسيم الموسيقية، والرسوم، واللوحات الزيتية، والمصنَّفات المنحوتة، ورسوم الهندسة المعمارية، والحصول على مقابل لاستفادة الآخرين بها. «تسوية نزاعات الملكية الفكرية»، منير زهران.

3- اتفاقية روما بشأن حماية فناني الأداء، ومنتجي التسجيلات الصوتية، وهيئات الإذاعة، والتي اعتمدت في روما في 26-10-1961.

4- اتفاقية جنيف بشأن حماية منتجي الفوتوغرافيا من استنساخ أعمالهم.

5- اتفاقية مدريد بشأن جمع البيانات الزائفة والضالة حول مصدر السلع.

6- اتفاقية بروكسل بشأن توزيع الإشارات الحاملة للبرامج المرسلة عبر الأقمار الصناعية.

7- معاهدة حق المؤلف.

8- معاهدة الأداء والتسجيل الصوتي.

9- معاهدة الملكية الفكرية فيما يتصل بالدوائر المتكاملة، والتي اعتمدت في واشنطن في 26-5-1989.

 الحماية القانونية لحق المؤلف:

تنصرف الحماية القانونية إلى مؤلفي المصنَّفات المبتكرة، سواء أكانت في الفنون أم العلوم أم الآداب بغض النظر عن ماهية هذه المصنَّفات، أو نوعها، أو طريق التعبير، أو الغرض منها.

فالعامل الرئيس والأساس هو ضرورة تحقيق الابتكار الذي يميز المصنَّف بالطابع الشخصي الناتج عن جهده.

كما يتعين إفراغ المصنَّف في قالب أو شكل معين، فالأفكار ليست مجالًا للحماية، بل الحماية تنصب على الشكل الذي تتخذه الأفكار، والذي يتم من خلاله التعبير عنها، والحماية للحقوق المالية للمؤلف طيلة حياته ولخمسين عامًا تالية لوفاته لصالح ورثته، وللمؤلف حقوق أدبية مؤبدة لا تقبل التنازل، ولا يجوز الحجز عليها، وهي:

1- حق المؤلف في إظهار مصنفه للجميع، وإلقائه في دائرة الضوء، والسماح بتداوله، واختيار طريقة عرضه والشكل الذي يخرج فيه للجمهور، فلا يجوز عرضه على شبكة الإنترنت دون موافقة مؤلفه، كما لا يجوز إخراجه في صور غير ملائمة للمؤلف.

2- الحق في نسبة المصنَّف إلى المؤلف، فالمؤلف وحده هو الذي يستطيع نسبة المصنَّف لنفسه أو بلا اسم، أو باسم مستعار مع تحمله مغبة ذلك مستقبلًا.

3- عدم المساس بالمصنَّف، فيجب أن يبقى المصنَّف على الشكل الذي أراده له مؤلفه دون أي تحريف، أو تشويه، أو تغيير لا يقبله المؤلف. المرجع السابق.

وهذا ما ورد بالمادة 143 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية الصادر بالقانون رقم 82 لسنة 2002 والمعمول به اعتبارًا من 03-06-2002.

«يتمتع المؤلف وخلَفه العام على المصنَّف بحقوق أدبية أبدية غير قابلة للتقادم أو للتنازل عنها، وتشمل هذه الحقوق ما يلي:

أولاً: الحق في إتاحة المصنَّف للجمهور لأول مرة.

ثانياً: الحق في نسبة المصنَّف إلى مؤلفه.

ثالثاً: الحق في منع تعديل المصنَّف تعديلًا يعتبره المؤلف تشويها، أو تحريفًا له، ولا يعد التعديل في مجال الترجمة اعتداء إلا إذا أغفل المترجم الإشارة إلى مواطن الحذف أو التغيير، أو أساء بعمله لسمعة المؤلف ومكانته».

كما ذكرت المادة 144 من القانون ذاته:

«للمؤلف وحده إذا طرأت أسباب جدية: أن يطلب من المحكمة الابتدائية بمنع طرح مصنفه للتداول، أو بسحبه من التداول، أو لإدخال تعديلات جوهرية عليه برغم تصرفه في حقوق الاستغلال المالي، ويلزم المؤلف في هذه الحالة: أن يعوض مقدمًا من آلت إليه حقوق الاستغلال المالي تعويضًا عادلًا يدفع في غضون أجل تحدده المحكمة، وإلا زال كل أثر للحكم».

ولأن الدول العربية لا تملك خيارًا آخر مع الضغوط الأمريكية خاصة حين طلب رئيس الوفد الأمريكي في الجولة السابقة (أورجواي) فرض عقوبات على الدول العربية التي تلتزم المقاطعة مع إسرائيل، وعاجلًا أو آجلًا سترفع هذه المقاطعة، وبالفعل انضمت العديد من الدول العربية لمنظمة التجارة العالمية، وتركت الشعوب العربية لمصيرها: إما الانكسار والتبعية، وإما الوقوف في وجه الاحتلال الأمريكي للعقول والأفكار والثقافات العربية.

فقد عدلت المغرب تشريعها الخاص بالملكية الفكرية، وكذلك الجزائر والكويت وقطر بالإضافة إلى مصر والعديد من الدول العربية الأخرى (ليس هذا هو موضع التفاصيل في ذلك) لتتوافق مع اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية (الجات) الصادرة في 15-4-1994.

 

 

 دور الأفكار في التطوير القانوني:

أسهبنا في التحدث عن الجوانب القانونية المتصلة بحقوق الملكية الفكرية؛ لأن الإبداع والأفكار لا قيمة لها إلا بترجمتها إلى واقع في صور شتى من الإبداعات الفنية والأدبية والابتكارية والعلمية في كل المجالات.

ولأن للفكر القانوني اتصال وثيق بالجوانب الإنسانية والاجتماعية في حياة الشعوب، فتطوره منذ القديم كنتاج لملكة الإبداع العقلي والنفسي والذهني، ولا ننكر أن استخدام الابتكار والأفكار السيئة كان له دوره في الركود والولوج في تعرجات أدت لكثير من التخلف، أو زيادة آثاره السيئة، ولكن عن طريقه -أيضًا- أي التفكير القانوني-، والابتكار له جوانب مضيئة كما سيرد فيما بعد قديمًا وحديثًا.

 الحيل القانونية:

الحيلة: هي افتراض أمر مخالف للواقع يترتب عليه تغيير حكم القانون دون تغيير نصه، أو الاستناد إلى واقعة كاذبة باعتبارها واقعة صحيحة حتى ينطبق القانون على حالة لا ينطبق عليها. دراسات في تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، السيد العربي حسن.

فهو توصل للنتيجة بالتعديل في معنى القانون دون تعديل صفته، فهو أمر شائع في الشرائع القديمة والحديثة على السواء، ولقد لعبت الحيلة دورًا خطيرًا في تاريخ التطور القانوني عند أكثر الأمم المتقدمة، وأحدثت في الشرائع والنظم أثرًا واسعًا، وذلك بسبل مختلفة، وصورًا عديدة.

وأحيانًا ما تكون أداة قضائية عند سلطان الاختصاص القضائي، أو لتصحيح الدعوى الباطلة، أو وسيلة اعتبارية لتبرير بعض المبادئ والنظم السائدة في بعض الشرائع.

ففي القانون الروماني كانت الحيل عامل فعال في ارتقاء النظم القانونية في الدولة الرومانية، وأيضًا معالجة الصعوبات الاجتماعية. تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، محمد الشقنقيري.

فقد كانت العبرة بالقالب القانوني الذي أفرغ فيه التصرف القانوني، وما احتواه هذا القالب من عبارات ورموز وإشارات وألفاظ، ولم يكن يجوز الطعن على التصرفات القانونية بسبب الغش أو الإكراه؛ لأن القانون الروماني قانون شكلي. «الحيل المحظور منها والمشروع»، عبد السلام ذهني.

وبرز دور فقهاء القانون وكبار المشرعين أمثال: (بانيبال)، و(بولس) الذين قالوا بالاعتماد على حسن النية والتوسع في التفسير والبحث عن حكم التشريع وغرضه وأهدافه.

وأيضًا: إن الملكية الفكرية الرومانية لم تكن جائزة إلا للمواطنين الرومانيين دون غيرهم، فيفترض البريستور أن المشتري روماني الجنسية حتى يقضي له القاضي بالملكية، وأيضًا في حالة السرقة، فلم يكن للأجنبي الحق في رفع دعوى ضد السارق، فما كان من البريستور إلا تضمين التقرير المرفوع للقاضي كون المجني عليه روماني الجنسية حتى يحكم له القاضي برد المسروقات والتعويضات. المرجع السابق.

وأيضًا نظام التبني الذي أجاز خلق رباط عائلي مصطنع وله دور خطير بإبقاء ذكرى الأسرات وتخليدها، أو لتحقيق أغراض سياسية؛ كنقل شخص من طبقة لأخرى، وتولي منصب الحكم في قومه. المرجع السابق، السيد العربي حسن.

أما عن الحيلة في الشريعة الإسلامية فقد اختلفت الآراء في جوازها:

فرأى المحرمون: أنها من الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى الغرض الممنوع شرعًا أو عقلًا؛ إذ إن أحكام الشريعة الإسلامية مستمدة من القرآن والسنة كأصل كلي، أما المسائل التفصيلية؛ فمتروكة لاجتهاد الفقهاء والقضاة، كما أنها بسيطة إجرائيًّا.

ورأى المجيزون: أنها نوع من الحذق وجودة النظر.

والحقيقة أن هناك حيل مشروعة وجائزة، وهناك حيل محظورة وغير جائزة. «المرجع السابق»، عبدالسلام ذهني.

ومن الشواهد للحيل الجائزة:

1) الافتراض بأن المورث حي حتى تستمر ملكيته على تركته اعتبارًا حتى يسدد ديونه، فهي منع للوارث من التصرف في أموال الشركة قبل الوفاء بالديون.

2) اعتبار المفقود مورث حكمًا كالميت حقيقة، وتوزيع أمواله على ورثته، مع أن الميراث خاص بتركة المتوفى فعلًا.

3) اعتبار الجنين شخصًا حيًّا قبل ولادته، إذا مات المورث أثناء فترة الحمل حتى يكون له نصيب في التركة.

ومن الشواهد للحيل المحظورة:

1) الاحتيال لإباحة ما هو حرام؛ كالاحتيال على الربا.

2) الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال؛ كالاحتيال على إسقاط الدين الواجب عليه، مثل من يتصرف في أمواله لزوجته وهو مدين حقًّا حتى لا يجب عليه الأداء.

3) أيضًا من يدخل عليه رمضان ولا يريد الصوم؛ فيسافر.

أما عن الحيلة في التشريعات الحديثة، فنجدها واضحة في آراء الفقهاء والفلاسفة في تعليل النظم السائدة، أو القواعد القانونية، أو تبرير للسلوك في المجتمع، ومن ذلك:

1) في القانون الألماني: ما ورد على لسان واضع قانون فردريك من أن العلة في تقرير حق الإرث للورثة بأنها وحدة الشخصية بين الحي والميت. المرجع السابق، محمد الشقنقيري.

2) ما يقوله الفقهاء الإنجليز في تبرير مبدأ مصادرة أموال المجرم في الجرائم مثل الخيانة العظمى: أن من ارتكبها يسدل على فساد في دمه العائلي، ويحرم من أمواله ابنه وإن كان حيًّا.

3) أيضًا في تبريرهم لسلطة الملك وانعدام مسؤوليته قانونًا بأن الملك معصوم من الخطأ. المرجع السابق.

4) تعليل الصور لأنظمة المجتمع السياسي بأنه ناتج عقد اجتماعي، خاصة عند (هوبز وروسو) في نظريات العقد الاجتماعي في إسناد تشكل الدولة للعقد الاجتماعي، وهو احتيال على الواقع، بل إن (دافيد هيوم) حمل حملة قاسية على هذا التحايل، ووصفه بالسخافة والخديعة أينما وجد. المرجع السابق.

وفي القانون المصري الحالي مجال للحيل والافتراضات، أبرزها:

1) الشخصية المعنوية التي تتمتع بها الهيئات والجماعات والمنظمات تشريعيًّا.

2) في القانون المدني أنه في الهبة يجب أن تكون مكتوبة في عقد رسمي، وإلا كانت باطلة ما لم تكن قد صيغت في صيغة عقد آخر.

3) وأيضًا افتراض علم الكل بالقانون لمجرد النشر في الجريدة الرسمية رغم عدم وصولها للناس كافة، وعدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون.

وكذلك في كل التشريعات والقوانين الحديثة والمعاصرة سواء كانت عالمية أو عربية مثل ذلك كثير.

وختامًا، نرسل للمسؤولين عن إنقاذ العدالة تلك الفكرة البديعة التي نفذتها إحدى الولايات الأمريكية في حل مشكلة القضايا المتأخرة فيها؛ حيث كلفت كبار المحامين والقضاة المحالين على المعاش سلطة الفصل في القضايا المتأخرة بجميع المحاكم بموجب قانون تشريعي، ويحسن اختيارهم لمدة موسم قضائي واحد ويجدد عن تثبيت كفاءة لكون مهمتهم: الفصل في القضايا المتأخرة فقط، أما دور القضاة أو العاملين؛ فيكون قاصر على الفصل في القضايا الجديدة فحسب، مع إيجاد طريق المحاسبة الكافية بمعرفة وزارة العدل.. فهل من مستجيب. مجلة الرايدريجست الأمريكية، عدد يوليو 1956م.