الرئيسية /طبيعة الفكرة، وأنواع الأفكار

طبيعة الفكرة، وأنواع الأفكار


أولاً: ما الفكرة؟:
بعض الأمور - على وضوحها - يصعب تعريفها، ويبدو أن الفكرة والتفكير والفكر لهم نصيب من ذلك، ولقد ذكرت تعريفات كثيرة للفكرة، نذكر بعضها، وإن كان ليس مقصودنا هنا أن نحكم بأن هذا التعريف أو ذاك جامع مانع، وإنما فقط من أجل أن نسلط الضوء على القضية لنظهر بعض معاني هذه المصطلحات، ونوضح الأبعاد المختلفة للتعريف.
ومن المفيد هنا أن نعرض عدّة تعاريف للفكر كما وردت لبعض أعلام الفكر والعلم واللغة:
قال الراغب الأصفهاني: "الفكرة: قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر: جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب".
ولهذا روي: "تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله، منزّهًا أن يوصف بصورة" (الراغب الأصفهاني : مفردات ألفاظ القرآن)، و قال تعالى: }كذلك يُبيّنُ اللهُ لكُمُ الآيات لعلكّم تتفكّرون{ (البقرة /219).
ورجل فكير: كثير التفكير(عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)
قال بعض الأدباء: "الفكر: مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها" (المعجم الوسيط).
وقال ابن منظور: -الفكر: إعمال الخاطر في شيء"( ابن منظور، لسان العرب، مادة: فكر)
وعرّف الشيخ محّمد رضا المظفّر الفكر بقوله: - تعرف مما سبق أنّ النظر - الفكر - المقصود منه إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب- والمطلوب هو: العلم بالمجهول الغائب؛ وبتعبير آخر أدق: -الفكر هو حركة عقلية بين المعلوم والمجهول(محمد رضا المظفر، المنطق).
وهكذا يضع هذا الفريق من الأعلام بين أيدينا الإيضاح والتعريف لكلمة (الفكر والتفكر)، وهكذا تتضح حقيقة التفكّر، وتشخيص معناها بأنها: حركة عقلية، وقوّة مدركة يكتشف الإنسان عن طريقها القضايا المجهولة لديه، والتي يبحث عنها ويستهدف تحصيلها، فتنمو معارفه وعلومه وأفكاره في الحياة.
ونخلص من ذلك إلى نتيجة مهمة وهي:" أنّ الإسلام حينما دعا إلى التفكر إنّما دعا إلى العلم والمعرفة واكتشاف قوانين الفكر والطبيعة والمجتمع والحياة؛ وبذا أعطى الحياة والحضارة والمعرفة الإسلامية صفة الحركية، وهي سر النمو والتطور والفاعلية والبقاء المؤثر في مسيرة البشرية، كما أنهّا حصانة من السقوط والتوقف والغياب التاريخي".
وكلمة الفكر تطلق ويراد بها أحدمعنيين-
أولهما: الفكر بمعنى الفكرة والأفكار، فنقول: يمتاز فلان بأن لديه فكرًا راقيًا - مثلًا- ونعني بذلك أن لديه أفكارًاراقية.
ثانيهما: الفكر (مصدرًا) يقصد به عمليةالتفكير.
كذلك فإن -الفكر عمل العقل لإدراك ما يحيط به-.. وله منازل: فالأولى: مرحلة عامة يشترك فيها أغلب الناس بناء على الثقافة العامة أو البراعة في مهنة أو عمل بشكل يجعل هذه الخبرة ممكنة التأثير.
ثم مرحلته الثانية الأعلى منها: وهي التقدم في معرفة الروابط بين المؤثرات من حوله ليعرفها ثم يفهم طريقة عملها.
ومرحلته الأعلى: التأثير فيها (محمد الأحمري، حرية الفكر).
وقد عرف التفكير بأنه: "ما يجول في الذهن من عمليات تسبق القول أو الفعل: تبدأ بفهم ما نحس به أو ما نتذكره، أو ما نراه وتمربتقييم ما نفهمه حبًّا أو كرهًا.
وتنتهي بمحاولة حل مشكلة تعترضنا" (صابر إسماعيل الكندري، العوامل المؤثرة في قدرات مكاتب التدريب الميداني في تحقيق أهدافها).
وعرف التفكير كذلك بأنه عبارة عن "سلسلة من النشاطات العقلية غير المرئية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريقواحدة أو أكثر من الحواس الخمس، بحثًا عن معنى في الموقف أو الخبرة" (فتحي جروان، تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات).
كما يمكن تعريف التفكير "بالعمليات العقلية الراقية التي لا يستطيع الحيوان القيام بها كالحكم، والتجريد، والاستقراء، والتعميم، والاستنتاج" (بدر الدين عامود، علوم النفس في القرن العشرين).
وهو كذلك العملية الذهنية التي تؤلف الشكل والمضمون وفق مبدأ الاستدلال عن طريق الاستنتاج والاستقراء الدائمين.
 وبغض النظر عن التعريف الجامع المانع إلا أن سردنا لهذه التعاريف يسلط الضوء أكثر على فهم الفكر والأفكار والتفكير، ويجعل الإلمام بمعناه أكثر وضوحًا.
ثانيًا: أنواع الأفكار:
 - من حيث قابليتها للتطبيق:
1- مجردة نظرية:
وبعض الناس يسميها فلسفية، وهي الفكرة التي ليس لها تطبيقات عملية مباشرة، ويمكن أن تكون مفهومًا أشمل أو رؤية أوسع، لكنها ليست الفكرة التي يمكن تطبيقها مباشرة، وإن كانت مهمة جدًّا في وضع التصورات والرؤى والتحليل والدراسة للأفكار العملية.
ونحن قطعًا لا نعني هنا أن الفكرة ليس لها أي وجه علاقة بالحياة، وإلا لما كانت فكرة تستحق أن تسمى فكرة، لكن تطبيقاتها الفعلية ليست مباشرة من جهة ومن جهة أخرى تميل للعمومية والمفاهيم الكلية، وهي من أفضل الأفكار لفتح آفاق إبداعية وتطويرية لأي فكرة، ويسميها بعضهم المفهوم لأنه تبنى عليه الأفكار كلها.
2- عملية:
وهي أية فكرة يمكن تطبيقها عمليًّا في الواقع مباشرة، أي أنها تبلورت إلى درجة يمكن معها أن تنفذ عمليًّا، سواءً كان التنفيذ بواسطة صاحبها أو بغيره.
ولا شك أن مبتدأ كل فكرة كان نظريًّا لكنها أنضجت ومرت بمراحل وفصِّلت حتى وصلت إلى شكلها الحالي، وستأتي - بإذن الله - المراحل التي تمر بها الفكرة حتى تتحول إلى فكرة عملية، إذ لا شك أن هناك درجات من النظرية والعملية تمر بها الفكرة، فليست الأفكار حدية الطبع إما أبيض أو أسود، إما عملية أو نظرية.
- من حيث مستواها لدى صاحبها:
تمر الفكرة لدى صاحبها بمستويات كثيرة، ويحدد مستوى الفكرة عزيمة الشخص واهتمامه وهمته وتركيزه، ويمكن إجمال هذا في المستويات التالية:
1- خاطرة:
ترد على الذهن وتمر عليه مرورًا، ربما سمع من أحد أو رأى ما أثارها، أو ربما ركز على القضية فخطرت في ذهنه أو غير ذلك، المهم أنها مجرد فكرة هلامية عامة أولية وردت للذهن.
2- حديث نفس:
إذا اهتم الشخص بالخاطرة وركز عليها وأعادها في نفسه وذهنه مرارًا تحولت من مجرد خاطرة إلى حديث في النفس، يعيدها الإنسان مع نفسه ويراجعها بخلده، وهي أكثر تشعبًا من مجرد خاطر ورد على الذهن؛ إذ لها علاقات أكثر من النفس، وعلاقات أكثر بما حولها من الأفكار.
3- فكرة:
يتحول حديث النفس إلى فكرة عندما يكون هناك ارتباط بين هذا الحديث مع خبرات الشخص السابقة وتوقعاته المستقبلية وآماله وطموحاته وبيئته، مع معالجة وتحسين وتطوير لحديث النفس ليتحول إلى صورة تعبيرية عن اختلاط بين رؤية الإنسان لنفسه ولمستقبله، واختلاط بين خبرات الإنسان وفكرته ومستقبله.
4- فكرة موسعة:
بعد وضوح الفكرة، عادة ما تخرج حولها مجموعة من الأفكار تسبح في فلكها وتدور حولها بضبابية في البداية، ثم بعلاقات واضحة بين هذه الأفكار، هذه العلاقات تقوي الأفكار وتقوي ترابطها، وتوسع الأفكار التي حولها؛ مما يوسع تطبيقات الفكرة ومجالاتها، ويفتح نافذة لاستخدامات جديدة للفكرة الموسعة.
5- مشروع:
الفكرة الموسعة ذات قابلية عالية لتتحول إلى مشروع، ولا تتحول الفكرة إلى مشروع إلا إذا كتبت واتخذ القرار ووجدت العزيمة لتنفيذها في مشروع معين، ونحن هنا لا نريد التركيز على أنها تحولت لمشروع!، بل أنها أصبحت في ذهن صاحبها مشروعا.
6- اختلطت الفكرة بصاحبها فلا تفرق بينهما
كلما زاد تبني صاحب المشروع لمشروعه اختلط بنفسه وروحه، حتى تصل لدرجة أنك لا تستطيع التفريق بين الفكرة والمشروع، وبين المشروع وصاحبه، فالمشروع هو عنوان الشخص كما أن عنوان الشخص هو المشروع!، ومتى ما وصلت فكرة إلى هذه الدرجة فيندر ألا تصبح واقعًا معاشًا.
 من حيث نفعها لصاحبها:
يرفض الإنسان الأفكار التي لا تتلاءم مع مبادئه وأفكاره العامة ورؤيته للكون والحياة، ويرفض الأفكار التي لا تتلاءم مع رؤيته لنفسه وإحساسه بمشاعره، وينمي الإنسان ما توافق مع رؤيته لنفسه وللكون والحياة ولمبادئه، ولذا لما جَاءَ نَاسٌ مِنْ أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَال:َ "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " (رواه مسلم).
1- نافعة:
وهذا الأصل في الأفكار لدى من صلحت نفوسهم، فالفكرة حسب منشئها ومبتكرها، متى ما صلح صلحت، ومتى ما فسد فسدت، بل إنه أخطر من الفكرة طريقة توجيهها، فتوجيه الفكرة يظهر أثرها ونفعها أو ضرها، مثل ذلك مثل السلاح، فهو مفيد - بلا شك - إن وجِّه للأعداء، مضر - بلا شك - إن وجه لقتل الإخوان أو وجهه الإنسان لقتل نفسه!!!.
2- ضارة:
وعادة ما تكون الفكرة ضارة بصاحبها لاحتمالات، فإما أن صاحبها لا يعرف مصلحته!، مثل من كان سفيهًا أو أحمق، أو أنه ليس سفيهًا لكنه أُغلق عليه بسبب الغضب أو العناد أو غلبان شهوة، أو لضعف في قدراته التفكيرية، فلم ينتبه لعوار الفكرة ولم يراع إشكالاتها، أو كما تحدثنا سابقًا عن سوء توجيهها حتى لو كانت أصلًا فكرة جيدة.
3- محايدة:
وهذا ينطبق على كثير من الأفكار قبل توجيهها، ولذا كانت فكرة توجيه الفكرةِ كثيرًا ما تعادل الفكرة نفسها، بل هي فكرة أخرى تحتاج إلى كثير من التمحيص والبحث، وهذا يعطي أهمية كبيرة للأسباب والدوافع الحقيقية التي تدفعنا لإنتاج فكرة أو تمحيصها.
ثالثًا: التفكير واللغة:
يرى بعض الباحثين: أن اللغة قدرة ذهنية مكتسبة، يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتواصل بها أفراد مجتمع ما.( روي. س. هجمان، اللغة والحياة والطبيعة االبشرية).
إن الخاصية التي يتميز بها التفكير هي قدرة الإنسان على تفحص الأعمال أو الأشياء واستعراضها بصفة رمزية وخيالية، لا بصفة فعلية، أي بالطريقة نفسها التي يسلكها مهندس الجسور مثلًا عندما يصنع نموذجًا مصغرًا لجسر ليجرب قدرة تحمله وصلابته دون اللجوء إلى تكاليف بناء جسر حقيقي في كل مرة يبني فيها جسرًا.
 التفكير يمكن النظر إليه على اعتباره عملية معرفية تتميز باستخدام الرموز لتنوب عن الأشياء والحوادث، والرمز هو أي شيء يقوم مقام الشيء ذاته أو يدل عليه، ونحن نفكر عن طريق استخدام الرموز، وبما أن اللغة التي نلفظها هي عبارة عن عملية رمزية غنية، فالكثير من تفكيرنا يقوم على استخدام اللغة.
فاللغات التي يتحدث بها البشر تؤدي بهم إلى فهم أو تصور العالم الذي يحيط بهم، وهذا يعني أن اللغة تلعب دورًا كبيرًا في تكوين المفاهيم، وفي العمليات العقلية؛ لذا كانت ضرورة تنمية الثروة اللغوية فتقديم خبرات لفظية ذات معنى، يسهم في تطوير البناء المعرفي، ويسهم في تطوير خبرات جديدة، وزيادة مفاهيم جديدة يضيفها إلى مخزونه، وكل ذلك يسهم بالتالي في تحسين استراتيجيات التفكير، وتشكل الخبرات اللفظية ذات المعنى أبنية معرفية، بالتالي يسهل عملية احتفاظها واسترجاعها، وهي في الوقت نفسه وحدات التفكير التي تم تخزينها في البناء المعرفي للفرد؛ حيث إنه بزيادتها تزداد قدرة الفرد على معالجة الخبرات والقضايا والمواقف الجديدة التي يواجهها.  
وبدون الدخول في خلافات علماء النفس والتربية في كون أيِّ منهما يسبق الآخر ويشكله إلا أن العلاقة الكبيرة بين الاثنين واعتماد كل منهما على الآخر أمر في غاية الوضوح؛ فالتفكير هو المادة التي تقوم عليها اللغة لتوضحها وتجليها وتعرفها بينما اللغة هي الشارحة والمحددة والموضحة للفكرة حتى في ذهن صاحبها!!، ولذا فلغة بلا تفكير ربما كانت رموزاً وطلاسم خالية من المعنى، كما أن تفكيرا لا يتحول إلى لغة ربما سمي تجاوزاً تفكيراً وإلا فهو أقرب إلى تفكير الحيوانات فهو مغرق في العموميات التي لا تنفع وقد لا توجد إلا في ذهن صاحبها ولا يمكن أن تتحول لمشروع البتة، إذ إن الذي يعطي للفكرة محدداتها ويوضحها ويجليها هو اللغة.
حقيقة كم هي علاقة وطيدة وغريبة هذه العلاقة بين اللغة والتفكير!!.
رابعاً: مستويات الفكرة:
تمر الفكرة بمستويات عديدة في تسلسل تحولها إلى فكرة يتبناها صاحبها، كل مستوى من هذه المستويات له خصائصه، ويحتاج إلى عمل كي ينتقل للمستوى الذي بعده، هذه المستويات لمجرد التوضيح، وإلا فبين كل مستوى والآخر مستويات أيضًا، لعلنا نفصل أكثر عن ذلك في موضع آخر عند الحديث عن العمليات العقلية الممكن القيام بها لإنضاج الفكرة، وعمومًا يمكن تقسيم الفكرة إلى المستويات التالية:
1- الخاطرة:
وهو أول خاطر يرد على الذهن حول الموضوع، وقد يكون الخاطر فكرة سمعها الإنسان أو رآها أو سمع أو رأى ما يشبهها فخطرت على ذهنه، وقد تكون الخاطرة حول الموضوع نفسه أو حول تبنيه أو تجديده وتطويره أو حول رفضه ومحاربته أو غير ذلك.
وفي الغالب أن كل إنسان يخطر له كثير من الخواطر في اليوم الواحد، فهل كلها تتحول إلى أفكار؟!، في الغالب فإن أكثرها يُفقد - وللأسف - لأننا لا نحولها إلى فكرة!!، فكيف ننتقل للمستوى الذي يليه؟!
2- الفكرة:
بمجرد تركيز المرء على الخاطرة، وتكرارها في ذهنه مع وقفات تأملية حولها، تنضج وتحول إلى فكرة.
وتمتاز الفكرة عن الخاطرة بأنها أكثر تحديدًا، وأكثر ورودًا على الذهن، وصاحبها أكثر حماسًا لها.
ومع ذلك - للأسف - كثيرًا ما تضيع هذه الأفكار؛ لأن صاحبها لم يستطع، أو لم يرد، أو لم يهتم بنقلها للمستوى الذي بعده!!، فكيف يمكن أن ننقل الفكرة إلى المستوى الذي بعده؟!
3- الفكرة المحددة:
يختلف هذا المستوى عما قبله فقط في زيادة التحديد، مع ما يصاحب ذلك من زيادة الحماس والتبني للفكرة.
وعادة ما تنتقل الفكرة العامة إلى فكرة محددة بوسائل علمية كثيرة، سنتحدث عنها فيما بعد، لكن من أشهر الطرق العامة التي يقوم بها الناس لتحديد أفكارهم: الحديث حولها مع من حولهم، ويفاجأ كل ما تحدث بفكرته أنه يزيد في كل مرة في ذكر التفاصيل المحددة، وبالتالي تتحدد فكرته أكثر، وتتضح له عيوب ومخاطر لم تكن في ذهنه - سواءً منه أو يبينها له الناس - فيجيب عنها ويردها، ويستمر كل يوم والفكرة تتحدد أكثر في ذهنه!!.
ومع جمال هذه الطريقة إلا أنها ليست أسرع ولا أحسن ولا أيسر ولا أفضل الطرق!!، ولكنها على كل حال من أكثر الطرق استخداما عند الناس، وسيأتي لاحقا مجموعة كبيرة من الأدوات العلمية والمنهجية التي تعين على تحولات الفكرة وتحديداتها.
4- الفكرة المكتوبة:
وهي إحدى تحديدات الفكرة الإضافية، إلا أننا أفردناها في مستوى؛ لأن الفكرة تنتقل بها إلى عالم جديد!!، إذ يبقى الكثير من الهلامية والضبابية وعدم الترتيب في الفكرة مهما حددناها ولم نكتبها، كما يبقى فيها الكثير من الفجوات والثغرات التي لا يمكن تجاوزها إلا بكتابة الفكرة.
ولكتابة الفكرة أدوات وأساليب سيأتي الحديث عنها - إن شاء الله - إذ إن الكتابة الجيدة تساعد على إنضاج الفكرة بشكل جيد، كما أن كثيرا من الأفكار الرائعة تموت فقط لأن أصحابها لم يحسنوا كتابتها!!، فلما كتبوها رأوها لا تصلح وربما كانت من أفضل الأفكار.
5- التصور الأولي المكتوب:
وهنا ليس المقصود كتابة الفكرة، بل كتابة تصور كامل عن الفكرة وأهدافها ووسائل تحقيقها وضوابطها وتكاليفها وما شابه ذلك، وهو مثل ما قبله، إلا أن المحددات أصبحت أكثر، وتفاصيل الفكرة أكثر، والرؤية أشمل وأعمق.
وهذه مرحلة وسيطة، عادة ما تتم بين الفكرة المكتوبة والدراسة المتكاملة؛ إذ إن الدراسة المتكاملة يمكن أن يكتبها كاملة أو أجزاء منها مركز للدراسات أو مكتب متخصص، لكن التصور الأولي لا يكون عادة إلا من صاحب الفكرة!، فإن لم يستطع كتابته فليحضر له مستشارًا يكتب له ما في ذهنه ويسطر له ما يجول في رأسه حتى تكتب الدراسة وفق رؤية صاحبها، لا وفق رؤية باحث مركز الدراسات!!
6- الدراسة المتكاملة:
عادة ما تحول الأفكار الأولية المكتوبة إلى دراسة متكاملة، تؤيد أو تخالف الأفكار الأولية المكتوبة، فليس المقصود مجرد تأييد للأفكار الأولية، بل قد تكون الدراسة إثباتًا لعدم صحة الأفكار، المهم أن الذي يقوم بذلك مختص فيه، سواءً كان صاحب الفكرة نفسه أو مركز متخصص.
ومما يجب ذكره أن كثيرًا من الدراسات - للأسف - مجرد كتابة للأوراق لا تنضج الفكرة ولا تطورها، وهو أهم ما يجب أن تقوم به الدراسة، ما يعني أن الدراسة مجرد تسويد للأوراق لا فائدة منها ما لم تنضج الفكرة من جميع الجوانب المالية والقانونية والفكرية والتنفيذية.
7- تكامل الفكرة:
لتكامل الفكرة أوجه مختلفة ونظرات مختلفة، إلا أن تكاملها يعطيها قيمتها، وينفخ فيها روحها، ويبرز فيها جمالها وبهاءها، وكلما تكاملت الفكرة من جوانبها المختلفة كلما كان ذلك زيادة في رفع قيمتها، وتكمن المشكلة أحيانًا في تكامل الفكرة من أوجه دون الأخرى، فلننظر الآن في:
أوجه التكامل المختلفة للفكرة:
كفكرة:
تكامل الفكرة كفكرة أحد أهم تكاملات الفكرة، حتى لا تبدو فكرة مبتسرة، ركزت على جانب وأغفلت جوانب، مثلًا ركزت على العوائد ونسيت التكاليف، أو ركزت على الأمور المالية وتجاوزت الأمور النظامية أو الفنية!.
وغالبًا ما تبدو مشكلة الأفكار في عدم تكاملها بسبب صاحبها!!، فإذا كان صاحبها محبًّا لجانب، غلَّبه على غيره من الجوانب، وإذا كان كارهًا لجانب، ضعفت الفكرة في هذا الجانب، وهنا تظهر أهمية أن تتحول الفكرة في بعض مراحلها إلى فرق عمل تتجاوز به الشخصانية.
وتكامل الفكرة كفكرة له عدة جوانب سنأتي في الحديث عنها عند الحديث عن أشكال وأنواع الدراسات التي تحتاجها الفكرة - إن شاء الله -.
من الناحية العملية التنفيذية:
الفكرة تحتاج - غالبًا - إلى تخصصات مختلفة، وإلى رؤى مختلفة من نواحٍ مختلفة، ونحن هنا -قطعًا - لا نعني أن يكون صاحب الفكرة خبيرا في كل شيء!!، فهذا من المحال!!، لكن القدرة على الوصول للمعلومات الأساسية التنفيذية..هل هي ممكنة أم لا؟ وتكلفتها التقريبية وما شابه ذلك ضروري جدًّا لتكامل الفكرة من الناحية التنفيذية.
وتختلف هذه الجهة عن سابقتها في أننا هنا لا نتحدث عن الفكرة المجردة، بل عن تطبيقاتها التنفيذية، وإن كانت في الواقع تختلط مع سابقتها كثيرًا.
من ناحية نفسية صاحبها:
عادة ما تمر نفسية صاحب الفكرة بمراحل عديدة قبل أن تتكامل في نفسه، إلا أنه من المهم تكامل نفسية صاحب الفكرة؛ إذ إن هذا خليق بأن يجعل الفكرة أكثر اتزانًا وأكثر ثباتًا.
ففي بعض المراحل تكون نفسية صاحب الفكرة متهورة، وفي بعضها تكون محجمة، وأحيانًا تكون خائفة، وفي أخرى تكون شجاعة، في مرحلة يشعر صاحب الفكرة أنها متكاملة، وربما بعد ساعة يشعر أنها تافهة، كل ذلك لأن نفسية صاحب الفكرة تتلون وتتغير مع تغير معطيات الفكرة، أو مع تغير المعلومات عن الفكرة، أو مع تغير قبول المحيطين للفكرة، حتى تصل إلى نوع من التكامل والاستقرار الضروري ليستطيع صاحب الفكرة أن يجعل فكرته أكثر اتزانًا وعمقًا.
من جهة احتياجات السوق:
احتياجات السوق احتياجات مركبة معقدة، لا تفي بمتطلباتها مجرد السلعة أو الخدمة الأفضل مضمونًا، أو الأقل سعرًا، أو الأفضل شكلًا أو غير ذلك، بل عادة ما تكون تركيبة من مختلف هذه الأمور وغيرها.
ولا شك أن تكامل تلبية أيَّة فكرة لمتطلبات السوق خطوة مهمة لنجاح الفكرة، وغالبًا ما تركز الفكرة على جوانب قد تكون مهمة جدًّا أو هي أهم متطلبات السوق، لكن الفكرة تبدأ في التكامل ومعرفة كيف تلبي جميع الاحتياجات وترضي جميع الأذواق والمشارب.
 خامساً: جوانب مهمة للفكرة:
الذي يعطي أي شيء قيمته: هو مقدار الحاجة إليه وطلبه، فشخص يتقن اللغة الصينية في الصين شيء عادي، بل عادي جدًّا، وشخص يتقن الصينية في الجزيرة العربية عملة نادرة، والحاجة إليه شديدة لأي مشروع تجاري أو دعوي مع الصين، ويبقى دائمًا ما يحدد قيمة الشيء أو الشخص أو المنتج هو العرض والطلب، فكلما زاد العرض نقصت قيمة الشيء وكلما زاد الطلب ارتفعت قيمته.
لذا تتحول الفكرة إلى ذهب مصفى وإلى جوهرة ألماس أو أنفس عندما تأتي في وقتٍ الحاجة إليها فيه ماسة، وليس هناك أفكار مطروحة تلبي هذه الاحتياجات.
ولذا يبقى من أهم وأخطر الأمور المرتبطة بالأفكار: زاوية تطبيقها، وزاوية طرحها، فأحيانًا تطرح جوهرة ألماس على أنها قطعه من الكربون - ولاشك أنها كذلك - فتصبح قيمتها زهيدة جدًّا، وصاحب الفكرة الموفق من يستطيع أن يختار زاوية يضع فيها ألماسته، ويسلط عليها الضوء بطريقة جيدة تظهر لمعانها وبريقها مما يضاعف من قيمتها.
ولهذا طرق وأساليب ليس هذا مكان تفصيلها وبيانها، ذُكر بعضها في كتابنا السابق (سوًق فكرك – تسويق الأفكار جولة بين العلوم)، إلا أن ما نعنيه هنا أنه كلما زادت الحاجة للفكرة كلما زادت قيمتها وزاد التساؤل الكبير: لماذا لم تأت من قبل؟.
والإجابة عن هذا التساؤل مهمة جدًّا، إذ من حق الناس ومن تعرض عليهم الفكرة أن يتشككوا..؛ إذ إن الحاجة شديدة، والفكرة عادة ما تبدو بعد إنتاجها وبلورتها بسيطة، فلماذا لم تأت من قبل؟، وهذا السؤال في حقيقته يخفي سؤالًا أو أسئلة أكبر، مثل: هل هذه الفكرة تحقق الاحتياج الذي نريده حقيقة؟ لماذا لم تأتنا الفكرة من قبل؟ أم أن الفكرة خادعة لا تلبي احتياجاتنا بقدر ما أوهمتنا بذلك؟ وغير ذلك من الأسئلة المنطقية الأخرى.
من طرق زيادة قيمة الفكرة:
- تفردها والقيمة المضافة:
الفكرة الجيدة تظهر كأنها المتفردة بحل المشكلة أو تلبية الحاجة إليها، كما أنها تظهر قيمات مضافة لها، فهي كما تلبي الحاجة إليها ربما حلت إشكالات أخرى، أو لبت متطلبات أخرى.
وكلما زادت القيمة المضافة إلى الفكرة وتفردت بهذه القيم كانت الفكرة أرقى وأحسن وأكمل، ففكرة تحل لنا مشكلة تربوية مع أولادنا نشعر بحاجتنا إليها، لا شك أنها فكرة قيمة جدًّا، فكيف لو أضيف إلى ذلك أن الفكرة تحقق لنا حياة زوجية أفضل، واستقرارًا نفسيًّا أكبر، ومكاسب مادية جيدة، ووجاهة مجتمعية مناسبة... وغير ذلك؟! لا شك أن هذه قيم مضافة ربما لم تكن هي الاحتياج الأساسي لكنها ترفع من قيمة الفكرة كثيرًا جدًّا، فإن لم يكن هناك عرض لأفكار أخرى وكانت متفردة في ذلك، فلا شك أن قيمة الفكرة تتضاعف بذلك.
- عمقها:
أحد أشكال القيمة المضافة للفكرة هو عمقها، فعمق الفكرة يعطيها قيمة إضافية أخرى، ونعني بعمقها: إلى أي مستوى تصل في تلبية الاحتياجات، بل إلى أي حد تصل لتتعدى التوقعات؟!، كما أننا نعني بالعمق أيضًا عمق طرح الفكرة، وعمق ترابطها، وعمق تكاملها، وعمق قوتها الداخلية، وعمق ثبات الفكرة رغم المتغيرات وغير ذلك كثير.
ولا شك أن الفكرة العميقة تجمع كل ما ذكر سابقًا وغيره، لكنها تبقى رغم ذلك متألقة ببساطتها ورونقها.
- إبداعها:
يندر أن تجد فكرة عادية، أو فكرة أنتجت بطريقة تحليلية أو منطقية تلبي احتياجًا كبيرًا وذا قيمة مضافة كبيرة وعميقة!!، لماذا؟ لأنه ببساطة كان ممكن إيجادها من قبل!! فالحاجة إليها شديدة، والفكرة بتسلسل منطقي أو بتحليل مباشر يمكن الوصول إليها !، فلماذا لم تأت من قبل إذن؟.
الحقيقة أن الأفكار الإبداعية التي أنتجت بطريقة تتجاوز التحليل والمنطق هي الأفكار ذات القيمة العالية، حتى لو بدت الفكرة منطقية بعد ذلك - ولا بد أن تبدو كذلك - إلا أنها أنتجت بطريقة إبداعية، سواءً كان هذا بشرارة إبداعية ولدتها الحاجة أو الصدفة، أو كان بطريقة إبداعية منهجية سنأتي على دراستها فيما بعد.
- وقتها:
أكثر السلع والخدمات - إن لم نقل كلها - لها تاريخ صلاحية وتاريخ إنتاج، ومن هذه السلع - بلا شك - الأفكار!، فالفكرة التي آن أوانها ترتفع قيمتها جدًّا، والفكرة التي انتهى تاريخها ليس لها إلا مزبلة الفكر لترمى فيها.
فمن أخطر وأسوأ الأمور اختراع الشمعة في عصر الكهرباء والذرة!، أو تأخير استخدام الكهرباء حتى يستخدمها جيلان أو ثلاثة لنتأكد من سلامتها!، والأفكار في هذا مثل بقية السلع والخدمات، قيمتها في وقتها الذي أنتجت فيه وطرحت فيه، فقيمة كأس الماء في وقت الظمأ عالية جدًّا وبعد الري ربما تفقد كل هذه القيمة.
لذا كان من المهم لأي فكرة أن تواكب عصرها وتواكب حركة المجتمع وحركة الفكر والاحتياجات في المكان الذي ستطرح فيه، وهذا هو ما يكسبها قيمتها ويجعلها تلبي الاحتياجات والرغبات الذي يفترض أن تلبيها.