أهمية الإعلام في تسويق الأفكار


ليس هناك أوضح أهمية من الإعلام، وليس هناك أوضح تأثيرًا من الإعلام، وليس هناك أكثر تلاعبًا بالعقول والقلوب من الإعلام، وليس هناك أكثر استبدادًا وظلمًا وهمجية من الإعلام، وليس هناك أشد قهرًا وعدوانًا من الإعلام؛ فالإعلام بكل وسائل اتصالاته، وبكل أدواته، وبكل إمكانياته يُهيمن على عقولنا، ويصبغ أفكارنا، بل وطريقتنا في التفكير -أيضًا-، والقضية أكبر من أن تحتاج إلى شاهد.

وكما يقول عالم النفس الأمريكي -الألماني الأصل- (فريدرك فيرثام) في معرض رده على الذين يُشكَّكون بقدرة وسائل الإعلام وتأثيرها على الناس: «كلما وقع نظري على كتاب من هذا النوع، وهي (كتب مصوَّرة للأطفال فيها مشاهد عنف وجنس) في يد صبي في السابعة من عمره، وكأنما عيناه ملتصقتان بغراء على الصفحة المطبوعة، أشعر وكأني أبله حين أطالب بأن آتي بالدليل على أن مثل هذا الشيء ليس غذاءً عقليًّا صالحًا للأطفال».

 

 

هل الإعلام أداة لتسويق الأفكار؟ وهل يمكن تسويق الأفكار بدون إعلام؟

إن من الأمور والأشياء المتفق عليها بين عقلاء الناس: كون الإعلام من أقوى وسائل التأثير الجماهيري وتسويق الأفكار، وأدواته من أقوى الأدوات في تسويق الفكر والتأثير في الناس، ولا يُمكن الحديث عن تسويق الفكر بغض النظر عن الوسائل الإعلامية التي تأخذ من الناس -باختيارهم- وقتًا كبيرًا أكثر من مدارسهم وأعمالهم وأشغالهم، ولذا تحرص جميع الفرق والنحل والمذاهب الفكرية والديانات والقوميات العربية على أن يكون لها أداتها التي تُسوِّق بها أفكارها وأطروحاتها وبرامجها، ويُعتبر امتلاك أي فئة من هذه الفئات لأي أداة أو وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري الإعلامي نقطة محورية في حركة هذه الفئة، ومنعطفًا مهمًا في مسيرتها.

من يستخدم الآخر: هل الإعلام، أم التسويق؟

هل تنشأ المراكز الإعلامية من أجل تسويق الأفكار؟ أم أنها تبحث عن أفكار لتسوقها؟

الذي يبدو ويظهر لي: أن الصراعات في العالم أصبحت أشد وأعنف من أن تحتاج إلى المراكز الإعلامية، أو أن تبحث عن أفكار لتسوقها.

والحقيقة: أن المراكز الإعلامية تعد كأداة من أدوات المعركة والهيمنة الفكرية والسياسية والاقتصادية -أيضًا-، بل وكأداة من أدوات تضليل عقول البشر، وكأداة تسعى من خلالها النُّخَب إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة، فامتلاك وسائل الإعلام شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى، متاح لمن يملكون رأس المال، وبالتالي تكون المعادلة القاسية التالية: من يملكون المال يملكون الإعلام، وبالتالي يملكون الفكر، وبالتالي يملكون الدنيا.. باقتصادها وسياستها وعلاقاتها، وبالتالي يزداد امتلاكهم لرؤوس الأموال، وتعود الدائرة.

إلا أن الأمور ليست بهذا المستوى من الظلام، فوسائل الإعلام شأنها شأن الملكيات الأخرى مرت عليها رياح التقدم التصنيعي؛ لتجعلها أرخص وامتلاكها أسهل لكل من أرادها من الجماعات -بل الأفراد- ليسوق أفكاره، وعندما تمتلك أمة إرادة يصبح المتاح أكبر، والفرص أكثر.

إلا أن الأمور ليست بهذا المستوى من الظلام؛ فوسائل الإعلام شأنها شأن الملكيات الأخرى، مرت عليها رياح التقدم التصنيعي، وجعلت تناولها أرخص، وامتلاكها أسهل لكل من أرادها من الجماعات -بل والأفراد-؛ ليسوق أفكاره، وعندما تمتلك أمة ما إرادة قوية وصلبة يُصبح المتاح أكبر، والفرص أكثر.

الأوهام الإعلامية الخمسة

فمن أجل التضليل الإعلامي، ومن أجل تلاعب أقوى بالعقول، ومن أجل هيمنة فكرية كاملة على المتلقين، يقوم الإعلام اليوم على خمسة أوهام، وهذه الأوهام يتكأ عليها الإعلام على أنها فرضيات وحقائق وأساسيات غير قابلة للنقاش والأخذ والرد، وذلك من أجل تسويق ما يريده فقط، ويحاول أن يُظهر هذه الأوهام بمظهر الحقائق، لكي تكون قابلية المتلقي أقوى وأدعى للاستسلام، ويكون قبول الأفكار عنده أكبر وأكثر، وليكون تلقي المضمون بسرعة فائقة، وأيضًا ليكون الاعتراض أقل أو منعدماً لا وجود له ولا أثر، وهذه الأوهام هي :

 وهم وأسطورة الفردية، والاختيار الشخصي:

من أعظم الإنجازات الإعلامية التي حققها التضليل الإعلامي: تكريس تعريف للحرية، يقوم على النزعة الفردية ولو على حساب المجتمع، فالإعلام حارس لرفاهية الفرد ولاختياره الشخصي، ومن حق الفرد أن يختار ما يشاء في الوقت الذي يشاء بالطريقة التي يشاء، ويُكرِّس هذا الوهم، مع أن هناك من الشواهد والدلالات ما يكفي للقول بأن حقوق الفرد المطلقة ليست سوى أسطورة خيالية، ولا يمكن الفصل في أي حال من الأحول بين الفرد والمجتمع.

وهم وأسطورة الحياد:

لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفاعلية ونجاح أكبر، لا بد من إخفاء شواهد وجوده، أي أن التضليل يكون ناجحًا ومتميزًا عندما يشعر المُضلَّلون أن الأشياء كما هي عليه في الواقع لم يتغير منها شيء، وذلك يقتضي نفي التضليل الإعلامي نفيًا قاطعًا، فلا بد أن يؤمن من يجري تضليله: أن المؤسسات الإعلامية تقف على الحياد، ولا توجد أيديولوجية تقف خلفها، فما يقدمونه لا يعدو كونه حقائق ومعلومات محايدة، مع أن القاصي والداني يعرف أن وراء كل ذلك عقائد وأفكار، بل إن الحياد الكامل لا يوجد لدى أحد البتة، فما أعتقده وما أنا مؤمن به وما أراه سيظهر لا محالة، شئت أم رفضت، حتى لو أردت إخفاءه، فما بالك إذا كان المركز الإعلامي لم يوجد إلا من أجل أفكار يُراد أن تُسوَّق، ومعركة يراد أن تحسم؟!

وهم وأسطورة الطبيعة البشرية التي لا تتغير :

لا ينفصل السلوك الإنساني عن النظريات المتعلقة به، والتي يتبناها الناس، فما نؤمن به من أفكار فيما يتعلق بالإنسان يؤثر في سلوكنا، ووهم وأسطورة أن الطبيعة البشرية لا تتغير يجعل ليس لدينا قابلية أو استعداد للتغير، وبالتالي: فيجب أن نتعامل مع الإنسان كما هو بكل نقائصه وعيوبه، بل يجب أن نقدم له حقيقته كما هي، فالعنف طبيعة إنسانية لا تتغير، فليس هناك بأس من عرض مشاهد العنف العدواني، ومشاهد الجنس الفاحش، أفليست هذه طبيعة الناس التي لا تتغير؟! كما أنه يتم تحت هذا الوهم وهذه الأسطورة منع أي فعل اجتماعي!! فما يحصل هو نتاج عوامل الوراثة، والبيئة الواقعية، والطبيعة الإنسانية.

ومن حق المتلقي أن يراقب هذا الواقع ويحلله، ولكن قطعًا ليس من حقه -ولا يستطيع- تغيير الطبيعة الإنسانية، والعوامل الوراثية التي تجمعه مع الحيوانات آكلة اللحوم في كل احتياجاته وتصرفاته، فينبغي للمتلقي أن يكتفي بمجرد تحليل الواقع ومراقبته، وليترك الفعل سواءً كان فعلًا اجتماعيًّا، وهو المقصود أصالة، أو حتى فعلًا شخصيًّا قد يؤثر في الواقع الاجتماعي، أو يخالف ما يراد منه، وأن ذكر التغير في الوسائل الإعلامية؛ فهو تغير في الآلات والطرق والسيارات والأطعمة لا في الناس والعلاقات الاجتماعية، وترسل رسالة للمتلقي: بإمكانك أن تغير سيارتك وبيتك وأثاثك، ولكن إياك أن تغير من نمط الحياة الذي تحاول الوسائل الإعلامية فرضه، أو تغير من نفسك وحياتك، أو تغير تغييرًا اجتماعيًّا فاعلًا فضلًا عن تغيير سياسيًّا، فإن ذُكر في وسائل الإعلام حركات التحرير والمقاومة ذُكر عدد ضحاياهم ومقدار ما خسروا، لماذا ؟! لأنهم يخالفون الطبيعة الإنسانية والبيئة وعوامل الوراثة!!

ومع وضوح فساد هذا الوهم؛ لمخالفته للدين والعقل والمنطق وإلا؛ فما فائدة إرسال الرسل؟! وما فائدة التعلم والدراسة والقراءة؟! و...، بل ما فائدة وسائل الإعلام نفسها؟! إلا أنه بتكرار ترسيخ هذه الفكرة تجد كثيرًا من الناس يقول: «الطبع يغلب التطبع»، «عَدِّل جبل، ولا تعدل طبع»، وما شابه ذلك من الأمثال التي تدل على نجاح وسائل الإعلام في فرض هذا الوهم.

وهم وأسطورة غياب الصراع الاجتماعي:

تحاول وسائل الإعلام أن تظهر الانسجام والتآلف الاجتماعي لتخفي الصراعات الاجتماعية وتتجاهلها أو تحرفها؛ من أجل أن تقاوم أي مقاومة للظلم الاجتماعي، فإن تحدثت هذه الوسائل عن صراع، فهو صراع بين أفراد أشرار، وآخرون طيبون، وليس بين فئتين اجتماعيتين، أو صراع بين المجتمع ومجتمعات أخرى متخلفة، أو رجعية، أو غير متحضرة، وتقدم بدلًا من ذلك أي برامج تسلية عامة، أو أفلام، أو برامج تلفزيونية، أو غير ذلك؛ لأن الحديث عن الصراع الاجتماعي يساعد على الثورة على الظلم والتحرر من الضيم، وهذا ما لا يريده النُّخب التي تشكل الفئة الظالمة في الصراع الاجتماعي، وتشكل الجهة الممولة للبرامج الإعلامية، فإن رفضت الجهات الإعلامية؛ فستعاقبها هذه النُّخب بقطع التمويل، وإيقاف الصلاحيات الممنوحة منها، سواءً كان التمويل والصلاحيات على شكل تسهيلات، أو إعلانات، أو معونات مباشرة..، أو غير ذلك.

وهم وأسطورة التعددية الإعلامية:

تعدد القنوات، وتعدد الصحف، وتعدد الإذاعات يعطي انطباعًا لدى المتلقي بحرية الاختيار وبالتنوع، وحرية الاختيار ليس لها معنى ما لم يكن هناك تنوع، هذا الانطباع بالتنوع وبالحرية في الاختيار نظرًا للتعدد الإعلامي يساعد ويقوي القابلية للتلاعب بالعقول ويذكيها، والحقيقة: أنه ليس هناك تنوع حقيقي، وبالتالي؛ فليس هناك اختيار حقيقي، بل احتكار كامل، وإجبار للمتلقي على أفكار مطروحة باستبدادية وقهر!! (انظر: هربرت أ.شيللر، المتلاعبون بالعقول، ط2، مجلة عالم المعرفة (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، 1999).)

فلم يستطع المشاهد العربي أن يعرف ما يجري في بلاد العراق أثناء الاحتلال الأمريكي!! وما التنوع بين عشرة أفلام قدمت كل فلم قناة مختلفة؛ إذ المضمون واحد، وإن اختلفت الأحداث واختلف الأبطال! وما الفرق بين فيديو كليب المغني (س)، وفيديو كليب المغنية (ص)، هل الفارق في نوع الإيقاع، وفي شكل الراقصة؟! وهل لدى المتلقي العربي اختيارات غير هذه البرامج؟!

إن التشابه الجوهري في المادة الإعلامية، وفي التوجهات الثقافية التي تنقلها كل وسائلنا الإعلامية يستلزم أن ننظر إلى الجهاز الإعلامي بوصفه وحدة واحدة، وتبقى حقيقة واضحة: ليس هناك خيارات بما أنه ليس هناك تنوع، وليس هناك تنوع في ظل الاحتكار، وسيظل الاحتكار ما دامت الأنظمة لا تسمح بمنافسة وسائل الإعلام المحلية، وإن سمح بمنافستها؛ فهي منافسة شكلية، كما ينافس التاجر نفسه بإنزال اسم جديد لنفس الصابون الرائع الذي يبيعه! وستظل الأنظمة السياسية لا تسمح بالمنافسة الإعلامية في ظل سياسة الاستبداد، وربما نظل كذلك في ظل عدم الوعي والبعد عن منهج الله، قال الله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين}[الزُّخرُف:54].

25578