مكاتب الإقراض.. الأفكار ملاذ الفقراء!


قيل قديمًا إن الحاجة أم الاختراع، وكثيرًا ما ألجأت الحاجة البعض إلى التفكير والابتكار في سبيل البحث عن حلول لمشكلات تؤرقهم.
إن التفكير الابتكاري يعد أحد سبل مواجهة المشكلات الحياتية الطارئة، والتي قد تعجز الوسائل التقليدية عن معالجتها.
وقد استعرضنا في الموضوعين السابقين، نموذجان بارزان على تحويل الأفكار الخلاقة إلى مشاريع أسهمت في مسيرة التنمية والتقدم، غير أن هناك نماذج أخرى بسيطة، كان لها أثر كبير للغاية في محيطها.. وتعود بدايات القصة إلى الأزمة المالية التي عصفت بالمكسيك عام 1994 بسبب خسائر أسهم الكثير من الشركات في البورصة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق وصل إلى 35%، كما تراجعت العملة المحلية البيزو- أمام الدولار في البورصات العالمية، ما مثل ضربة أخرى للاقتصاد المكسيكي، تمثلت في انخفاض حجم الاستثمارات وإعلان العديد من الشركات إفلاسها وتسريح آلاف العمال.. وهكذا كانت المكسيك على وشك الانهيار.
غير أنه ذات مرة، ووسط هذا المناخ الاقتصادي الصعب الذي زاد من حدة الفقر في البلاد، لم تجد السيدة -بلتران بيارداد-- 36 عامًا - حلاً لأزمتها الاقتصادية سوى أن تذهب إلى المتجر القريب من منزلها في إحدى ضواحي العاصمة المكسيكية -مكسيكو سيتي-، لتسأله أن يقرضها مبلغًا من المال تستعين به على شظف العيش، وتربية أولادها، على أن تسدد له عندما يحصل زوجها العامل على راتبه المتأخر من المصنع الذي يعمل به.
غير أن التاجر أقنع السيدة بأن تأخذ منه المال مقابل أن تصنع له مجموعة من الحلي التي تتقن عملها لعرضها في متجره للمشغولات، وإذا تم بيعها تصنع له أخرى مقابل مبلغ آخر، واستمر الحال هكذا بين التاجر والسيدة التي انهمكت بدورها في صنع المزيد، حتى إنها وجدت لنفسها وأسرتها مصدر دخل رئيسي.
وفي ظل هذا المناخ الاقتصادي البائس، الذي ارتفعت فيه نسبة الفقراء إلى ما يقارب 40%، لاقت تجربة السيدة بلتراننجاحًا، حيث طبقها كثير من فقراء الضواحي، من خلال الذهاب إلى التجار ليعرضوا عليهم ما يستطيعون صنعه من أعمال يدوية مبتكرة مقابل مدهم برأس المال اللازم لبدء صناعتهم، وهكذا أخذت الظاهرة في الانتشار، حتى أصبحت تجربة ناجحة، حيث اعتمد الأهالي على التجار الذين أطلقوا عليهم فيما بعد مكاتب الإقراض كمصدر رئيسي للدخل، مقابل القيام بالمشروعات المنزلية الصغيرة التي غالبًا ما يشترك فيها كل أفراد الأسرة.
وهكذا أصبحت مكاتب التجار بمثابة التهديد القوي لبنوك الائتمان المعنية بإعطاء قروض صغيرة للمواطنين للقيام بمشروعات بسيطة؛ حيث فقدت هذه البنوك الكثير من عملائها، كما سعت بعض الأسر التي لا تتقن أي حرفة إلى تعلم بعض الأعمال اليدوية التي من شأنها أن تمنحهم الفرصة للحصول على المال من التجار مقابل إنتاج أعمالهم.
وقد لعبت مكاتب الإقراض دورًا بالغ الأهمية في التنمية المحلية من خلال شقين: أولهما اقتصادي وتمثل في مساعدة الأسر على توفير دخل مناسب لها لمواجهة متطلبات الحياة، أما الشق الآخر فهو صناعي؛ حيث ساعدت على تنمية الصناعات الحرفية والأعمال اليدوية. وقد ساعدت هذه المكاتب التي يصل عددها حتى الآن إلى 1775 مكتبًا منتشرة في 22 قرية مكسيكية على خفض معدل البطالة بنسبة 5%؛ أي 80 ألف أسرة في سنتين. ولم تنس هذه المكاتب تحقيق المكسب لها، فقد كانت هي الأخرى تحصل على ربح هائل بعد تسويقها لإنتاج الأسر الذي كان يخرج في أفضل صورة؛ حيث كانت تتنافس كل أسرة في إتقان عملها وتقديمه في أسرع وقت.
وقد توسعت مكاتب إقراض التجار، وازدادت صلابتها بقدرتها على جذب أكبر عدد من العملاء؛ حيث بدأت بمنح نسبة ربح على المنتجات للعميل تدريجيًا، إلى جانب توفير المال اللازم لشراء المواد الخام البسيطة التي تتألف منها أعمالهم، وكان الضمان الرئيس بين التاجر والعميل هو حاجة العميل الملحة إلى المال؛ حيث لم يكن هناك أي مصدر ثابت ومستقر للدخل أمامه سوى الاعتماد على هذه المكاتب.
لقد نجح ابتكار الفقراء في مواجهة البنوك التي أرهقت بفوائدها الراغبين من البسطاء في الدخول للعملية الاقتصادية كمنتجين، وتحولت فكرتهم البسيطة إلى مشروع شبه قومي، أتاح للكثيرين الخروج من كبوة الفقر المدقع والوفاء بأبسط احتياجاتهم الحياتية، وأثبت البسطاء، أن الأفكار الجديدة والمبتكرة، التي تتحول إلى مشاريع ناجحة، تمثل في أغلب الأحيان حلاً غير تقليدي لمشكلات عجزت عن حلها الوسائل التقليدية.
3991