الــحــروب (تاريخ)


(عندما يُكتب التاريخ السياسي ويُسطَّر؛ فإن أبرز ما يُكتب فيه ويُركَّز عليه: هو ما يتعلق بجانب الحروب والمعارك التي تُعتبر من أبرز الأحداث السياسية، أو نقول: أبرز أحداث فشل السياسة، وعندما يُصاغ التاريخ وتسطر معالمه؛ فإنه يُصاغ ويُكتب من جانب المنتصر، وعندما نؤرخ للمعارك لا بد أن نؤرخ لأسبابها، وكذلك للدعاية التي تمَّت قبلها وأثنائها وبعدها -أيضًا-، ومن لم يتكلم عن هذه الدعاية في كتابته للتاريخ؛ فإنه يعتبر كأنه لم يكتب تاريخ الحروب، ومن ثم لم يكتب التاريخ كما يجب أن يكون؛ إذ إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، ولزيادة توضيح ذلك لا بأس بأن نضرب هاذين المثالين. مصطفى عبد الغني، الجات والتبعية الثقافية.

المثال الأول: الحربُ الباردة:

تجنبت الدولتان المسميتان بـ(الدولتين العظيمتين) أي حرب حقيقية، والسبب في ذلك: خلفيتهما المسبقة عن أن أي حرب هي نهاية للطرفين! فقوة الردع النووية كفيلة بإيقاف أي حرب بين الطرفين، وفي مثل هذه الظروف برزت الدعاية بوصفها بديلًا للحرب الحقيقية المباشرة بين الطرفين، وبرزت الدعاية بكونها داعمًا للحروب والمناوشات التي تحدث على أطراف هاتين الدولتين في خطوط القتال؛ مثل: (أفغانستان وفيتنام)، وبرزت الحرب الفكرية والأيديولوجية أكثر من الحرب العسكرية؛ ولتوضيح ذلك نضرب بعض الأمثلة على الممارسات الدعائية الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي وضد الشيوعية (وما أشبه الليلة بالبارحة):

- شكلت لجنة للنشاط المعادي لأمريكا في مجلس النواب الأمريكي.

- خلقت أمريكا جوًّا من الخوف لم يكن في ظله يمكن التسامح أو التعاطف مع العدو، ولم يكن يسمح بأي رأي عن الروس سوى أنهم أعداء.

- وصف كل من اعترض على أي إجراء حكومي بأنه مخرب وجاسوس وهدام، ثم غذِّي ذلك بمجموعة من أفلام (هوليود) وغيرها، مثل: فيلم (تزوجت شيوعيًّا).

- شنت (الحرب الصليبية من أجل الحرية) بدافع تدعيم قدرة شعوب شرق أوربا المحبة للحرية على التخلص من النير العسكري السوفييتي، وقد افتتحت هذه الحرب الصليبية -كما سموها - (راديو أوربا الحرة)، ثم إذاعة (راديو التحرير) التي تغير اسمها إلى (راديو الحرية)، ثم مع التقدم التقني الإعلامي، وتغير العدو فُتحت قناة الحرة.

- لم تكن المساهمات العامة كافية للإنفاق على الحملة الدعائية، فدُعي الناس للإنفاق على هذه الحملة.

- صدر قانون (سميث - موندت) من أجل ترويج فهم أفضل للولايات المتحدة في البلاد الأخرى، ولزيادة الفهم المتبادل بين شعب الولايات المتحدة وشعوب البلاد الأخرى.

- كان من الأسباب الرئيسة لهزيمة (أمريكا) في (فتنام) صور مقاتلي (الفيتكونج) في أثناء إعدامهم، والأطفال المقتولين بقنابل النابالم، والرهبان المحترقين، لقد كشفت (فتنام) للساسة خطورة الحرب على التلفزيون وعلمهم أنه ينبغي أن يمنعوا -ولا بأس أن يقتلوا ويدمروا- كل من يحاول أن ينقل صورة غير الصورة التي يريدون نقلها.

المثال الثاني: تسويق حرب الخليج الثانية في أمريكا:

كان (صدام حسين) حليف أمريكا لأكثر من عقد من الزمان، وبعد احتلاله للكويت، وبعد أن أصبحت (حكومة الكويت) حكومة منفى قامت شركة (هيل آند نولتون)، وهي أكبر شركة علاقات في العالم بدور العقل الموجه لحملة هائلة لإقناع الأمريكيين بضرورة مساندتهم لحكومة المنفى لاسترداد بلدهم من العراق، فمن هو الممول وما هي القصة ؟ قيمة الحملة (17.681) مليون دولار، دفعت معظمها الحكومة الكويتية بعقد بعد تسعة أيام من دخول (صدام) للكويت بقيمة (11.9) مليون دولار سلمت لمجموعة أنشئت من أجل إخفاء تمويل الحملة باسم (مواطنون من أجل كويت حر)، وتبرع (78) كويتيًّا بباقي المبلغ، فماذا فعلت شركة (هيل آند نولتون) يمكن أن نلخص ما فعلته في نقاط سريعة من أهمها :

- افتتحت (12) مكتبًا في مختلف الولايات يديرها (119) مديرًا تنفيذيًّا.

- رتبت للكويتيين مقابلات مع أجهزة الإعلام.

- نظمت (اليوم الوطني للكويت الحر)، واجتماعات عامة أخرى.

- وزعت الكثير من المعلومات والبيانات الصحفية، ووزعت أكثر من (200000) كتابًا حول الأعمال الوحشية بعنوان (اغتصاب الكويت)، وأوصلت نسخًا من ذلك الكتاب إلى الصحفيين المؤثرين، والجنود الأمريكيين.

- وزعت آلاف القمصان الصغيرة التي كتب عليها (حرروا الكويت)، ووضعت الملصقات الكبيرة في المباني الجامعية عبر الولايات المتحدة.

ضربة (هيل آند نولتون) الإعلاميَّة: حين عقد (المؤتمر التحضيري لحقوق الإنسان) جلسة استماع لتقديم العرض الرسمي لانتهاكات (العراق) لحقوق الإنسان، كانت إحدى أكثر الشهادات تأثيرًا شهادة بتقديمها فتاة في الخامسة عشر من عمرها تم تعريفها باسمها (نيرة).

- أخفي بقية اسمها حتى لا تتعرض عائلتها في الكويت للانتقام! - ومن بين نشيجها ودموعها وصفت ما رأت في أحد المستشفيات في مدينة (الكويت) عندما كانت متطوعة في مستشفى (العدان)، وكيف رأت الجنود العراقيين وقد أخرجوا الأطفال الخدَّج من الحاضنات والقوهم على الأرض ليأخذوا الحاضنات، واستمرت في روايتها تلك زاعمة أن ذلك حدث لمئات الأطفال الخدَّج، ولقد كان تأثير القصة كبيرًا جدًّا مع ما صاحبها من تقارير (هي التي أعدتها: «مواطنون من أجل كويت حر»)، وخرجت الصحف وقد كتبت شهادة (نيرة)، وخرجت وقد اكتظت بالتقارير التي تبين وحشية الاحتلال العراقي.

وبعد الحرب بحث الناس عن الأطفال الخدَّج الذين قتلهم الجنود الوحشيون؛ فاكتشفوا أنه لا يوجد إلا أقل من أصابع اليد من الحاضنات في المستشفى بل في الكويت، ولم يرى أحد الجنود وهم يسحبون الأطفال الخدَّج! إذن كيف كانت شهادة (نيرة)؟! وعلى ماذا بُنيت؟!

ما لا يعلمه كثير من الناس إلى الآن أن من تسمى (نيرة) هي بنت (سعود ناصر الصباح) سفير الكويت في أمريكا، وأن الذي ابتدع شهادة (نيرة) ودربها عليها هو نائب رئيس (هيل آند نولتون)!!.

الحروب كوسيلة لتسويق الفكر:

شرع الجهاد في الإسلام لإزالة الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ كما قال الله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير}[الأنفال:39]، فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله. فتح القدير، الشوكاني.

فالجهاد إذن وسيلة لفتح الطريق لتعبيد الناس لرب العالمين، وهو بهذا المعنى وسيلة لتسويق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإزالة العوائق والموانع التي تقف مانعة من تسويق ذلك، ولا زالت الحرب على مدى التاريخ تُستخدم لتسويق فكر معين، سواءً كان هذا الفكر حقًّا أم باطلًا، وأكثر -إن لم يكن كل- الحروب قامت على أسس عقدية (وأيديولوجية) بين دينين، أو فكرين، أو منهجين ومذهبين، ولو لبست الأسباب الاقتصادية أو غيرها لباس أسباب الحرب، إلا أن الأسباب العقدية والأيديولوجية تجدها كامنة في داخلها، والأمثلة كثيرة جدًّا، وما حروب هذا القرن عنا ببعيد!

 

5072


كلمات دليلية: